أقبِل بقلبك
وقفت تناديه من بعيد على ضفة الصبر: أقبل بقلبك. أعبر النهر مرة واحدة منتصراً على تماسيح الخوف التي تيبّست في ماء عينيك، وأنت تبكي لوعة الأيام وغدرها. ناسياً أن يديك، لو تمدهما نحو من تحب، لأصبحنا مجدافين تعبر بهما الأرض كلها من دون تعب أو ضعف. إني انتظرتك فجراً يقشع الرتابة من جذوري، ويحرث النور في صدر يتنهّد لموعد لقاك، وانتظرتك لنغني معاً للحب، ونكبر معه، سابحين في حلم حقيقي، فوق أنهار تذهب للبعيد ولا يعرف أحد أين مصبّها إلا نحن.
الحياة طريق يتفرّع في اتجاهات ألف، ولكن حين يحملنا قارب صغير معاً، حين نشدّ أيدي بعضنا في رقصة الدوران، تصبح الدنيا سفراً في المعنى، ووصولاً دائماً إلى نعيم موعود. ولو كنت أنت رجلاً يقف في أول الأرض، وأنا امرأة واقفة في نهاية المدى، فإن مسافات الكون تذوب كلها أن تعانقت رغباتنا. ولو كان لي جناحان من ورق الرسائل، لطرت نحوك غير عابئة بما يكتبه الأوصياء على الفضيلة ونواطير المنع. أقبل بقلبك وكفى، حتى لو متّ في منتصف الطريق. ما أجمل أن نموت في المسعى، فيما البقية يتجمّدون موتى في فراغ السنين.
وقف يناديها من بعيد على ضفة الأمل: انتظريني غداً. رجلاي مشلولتان في الحذر، قدماي غارقتان في طين التأنّي. رأيت العشاق جميعهم مذبوحين في الساحات ليلاً، لا قمر يضيء عذاباتهم، ولا شمعة تتّقدُ في طريقهم لحبيباتهم، رأيتهم مصلوبين فوق جدران أحلامهم الكبيرة. ولو كنتِ امرأة بلا أسوار، لقفزت نحوكِ بلا أقنعة، غير مكترث لو عرفوني. ولو كان لي جناحان من شجر الصبر، لاتخذتهما مجدافين أعبر بهما نهر الانتظار. ولكن ما حيلتي لو ربطوا خطوتي بحبال الأمس، ماذا اصنع وأقلامي كلها منهوبة، والطريق منحدرٌ وجرفْ، والماء غرقٌ بعد عطشْ.
الحياة ذهاب مستمرٌ إلى الحياة، مسعىً يجاهد البشر أن لو يعبروه كي يصلوا سالمين إلى الموت. ولكن حين يفصل بيننا البرق متكرراً في الوعيد، وحين يضيع صوتي في صدى الرعد وتتكسر الكلمات نتفاً من الصمت الطويل، عند ذلك تصبح صورة من أحب بلا شكل، مجرّد أمنية يفصلني عنها مطر غزير وطين وحراس، ويكون الموت بانتظاري عند كل منعطف. لو ترضين، أرسم وعدنا في القصيدة، وبعده لا يهم اللقاء. ولو يكتفي قلبكِ بكلمات الحب، لنشرت على وجه السماء مليون غيمة تمطر بحروف اسمكِ. خذي قلبي، خذيه حلماً، وانتظريني سأجيء يوماً بعد زوال العواصف والمحاذير، مدركاً أن ذلك إن حدث، سأكون كهلاً عجوزاً لا أقوى على حمل حجر، وقد لا تعرفينني سوى صوت عائد من ذكريات الهاربين. ما أجمل أن نحيا خائفين، فيما البقية موتى مضرجين بدم الحب في طريق العاشقين.
بين ضفتين يقفان، يناديها وتناديه
وأنا أعبر بينهما، نهرا عنيدا
أشقّ الأرض كأني أشقّ السماء
متلذذا بلحظة الوصول إلى المستحيل
عادل خزام | akhozam@yahoo.com